
طارق عبلا من هولندا
في قلب العاصمة الهولندية أمستردام، وبعيدا عن صخب المراكز السياسية والاقتصادية، يتحرك رجل على كرسي كهربائي متحرك، لكن حضوره يتجاوز الحواجز المادية، ليرسم ملامح نموذج استثنائي لمغربي هولندي اختار أن يجعل من المحنة منطلقا للمعنى.
أحمد المسري، اسم قد لا يتردد كثيرا في وسائل الإعلام المغربية، لكن أثره حاضر في تفاصيل الحياة اليومية لعشرات الأشخاص الذين وجدوا في الغربة “جمعية الصداقة” التي أسسها منذ عقود، ملاذا إنسانيا، ومنصة للتلاقي، والتعلم، والتضامن.
ولد أحمد في المغرب، وهاجر شابا إلى أوروبا في سبعينيات القرن الماضي، يحمل في جيبه القليل، وفي قلبه الكثير من الأسئلة حول العالم، والحرية، والانتماء. كانت رحلته الأولى نحو الشمال مغامرة شخصية، شبيهة بما يخوضه الشباب حين تضيق بهم الأوطان. غير أن المنعطف الحاسم في مسيرته لم يكن الهجرة، بل الحادث الأليم الذي تعرض له في هولندا، والذي تسبب له في إعاقة دائمة.
غير أن أحمد لم يسمح للظروف أن تملي عليه مصيره، فقد أعاد بناء نفسه من نقطة الصفر، لا كضحية، بل كفاعل.
جمعية “Assadaaka Community” التي أسسها في أمستردام الشرقية، أكثر من مجرد إطار للعمل الاجتماعي، فهي امتداد لرؤية أحمد في الاندماج الحقيقي، القائم على الكرامة لا على الشفقة، وعلى المشاركة لا على الإقصاء، ومنذ 1990، تحوّلت الجمعية إلى نقطة التقاء لمهاجرين من خلفيات متعددة، حيث يجدون دعما لغويا، ومرافقة اجتماعية، وأنشطة ثقافية، دون تمييز أو حواجز.
في مكاتبه المتواضعة، يستقبل أحمد يوميا الشيوخ، الشباب، والمهاجرين الجدد، يجلس معهم، يصغي، ويقترح، ويوجه، ثم يتكلم من واقع معاش، ومن تجربة شخصية يعرف فيها ما معنى الوحدة، والعجز، والغربة، لذلك، فإن كل لقاء مع أحمد يحمل ما هو أبعد حتى من النصيحة.
ورغم تقدمه في السن، وتقاعده رسميا، إلا أنه لا يغادر مقر الجمعية إلا نادرا، فهو يجد في العمل التطوعي دواءه الخاص، ويصر على أن يكون حاضرا في جميع تفاصيل الأنشطة التي ينظمها، من وجبات الطعام التضامنية التي توزع على من لا يجدون مدخلا للرزق أو حجرة تحميهم من طقس هولندا، إلى دورات اللغة التي تفتح أبوابا جديدة للاندماج.
ولأن الرجل يدرك أهمية التعليم، نسج علاقات واسعة مع مؤسسات تعليمية في هولندا، ليحول جمعيته إلى فضاء تدريب للطلبة والمتطوعين، ويجعل من “الصداقة” مدرسة في العمل المجتمعي.
كثير من الشباب الذين تدربوا في الجمعية، يشغلون اليوم مناصب في منظمات الرفاه الاجتماعي، حريصين على نقل فلسفة أحمد في العمل.. أن تكون قريبا من الناس، لا وصيا عليهم.
ورغم العروض المتكررة لتوسيع تجربته إلى مدن هولندية أخرى، فضل أحمد البقاء في أمستردام، في الحي الذي احتضنه واحتضنه بدوره. بالنسبة له، ليس الحجم هو المعيار، بل العمق. المهم أن يكون مؤثرا حيث هو، وأن بصنع فرقا في حياة الناس مهما كانت الوسائل بسيطة.
هذا في زمن كثر فيه الحديث عن الهجرة والاندماج من زاوية الخوف أو الفشل، حيث يمثل أحمد المسري الوجه الآخر لهذه المعادلة، مهاجر صنع لنفسه ولغيره طريقا وسط العوائق، وأسس تجربة مجتمعية باتت نموذجا يحتذى، ليس فقط في هولندا، بل في كل بلد يؤمن بأن الكرامة والإنسانية لا تقاس بجواز السفر، بل بما يقدمه الإنسان من أثر.